إذا كان الماء والهواء ضرويان للحياة، ولا غنى عنهما، بالأبعاد البيولوجية والمعيشية، فإن الوحدة ضرورية، ولا غنى عنها، بالأبعاد السياسية والوطنية.
فما بالكم، لو كان الواقع يفصح عن معاناة فاقعة وفظيعة يعاني منها شعبنا وأسرانا إزاء هذه القضايا الثلاث: الماء.. الهواء.. والوحدة ؟! الواقع يقول لنا بقسوة موجعة: ثمة منع وتوزيع ظالم للمياه بفعل الإحتلال والإستيطان، وهناك مشكلة في التنفس بالمعني الفيزيائي والبيئي وبالمعنى الإنساني (الحرية)، وهناك انقسام سياسي موجع ومخجل في قيادة وقوى وصفوف وإرادة شعبنا الفلسطيني!
إذا كان شعبنا الفلسطيني الذي يعيش تحت الإحتلال في سجن كبير،يعاني أشد المعاناة بصدد الماء والهواء والوحدة، فماذا يكون الحال مع هذه الفئة الخاصة من شعبنا: الأسرى والأسيرات؟!
ما أصعب أن يصبح السجنُ سجوناً، أن تغدو الزنازينُ خانقةً وأقلَّ هواءً، وأن ينضاف إلى الألم الذي يسببه السجان لنا ألماً آخر يأتي من مشكلات واختلالات الوضع الوطني العام خارج السجون وانعكاسه السياسي والمعنوي على الأسرى داخل السجون، أي ما تسببه قياداتنا وأيدينا ومواضع تخلفنا.
من السجان يأتي قهر العدو.. ومن داخلنا يأتي وجع شديد حين تتغلب أنانيتنا على المصلحة الوطنية، وحين نعجز عن استيعاب وتقبل بعضنا بعضاً ولا نتوصل إلى قاسم وطني يجمعنا ويرص صفوفنا في وجه أعدائنا وجلادينا.
في سنوات سجن عسقلان الأولى، كان هناك سجان يُدعى "جورنو" كان يستعجلنا في الحمام ونحن تحت "الدوش" كي ننهي الإستحمام بسرعة، فالمدة المسموح بها هي 3 دقائق فقط!
الآن يعيد تاريخ السجون الإسرائيلية نفسه، ولكن في ظروف وصور أخرى، وبدل السجان جورنو يأتي الوزير عيزرا!
مع اشتداد ازمة المياه في الكيان الصهيوني وتراجع مخزون المياه في بحيرة طبريا طرح مفوض سلطة المياه الاسرائيلية اوري شني الموضوع للنقاش على جدول اعمال الحكومة الإسرائيلية. وذكرت صحيفة "يديعوت احرونوت" ان النقاش الحاد داخل الحكومة شهد العديد من الاقتراحات مثل اغلاق صنابير المياه الواصلة للمنازل عدة ساعات في اليوم حتى يدرك السكان حجم الازمة، الى اقتراح بوقف او تحديد ري الحدائق المنزلية وتقليص حصص المياه المخصصه للزراعه وغيرها .
لكن أغرب الاقتراحات جاء من وزير حماية البيئة ونائب رئيس الشاباك السابق غدعون عيزار الذي اقترح تقييد حرية الاسرى في الاستحمام وقال " انهم لا يفعلون شيئاً خلال النهار سوى الاستحمام وتبذير المياه لذلك يجب الطلب من وزارة الامن الداخلي المسؤولة عن السجون تحديد كميات المياه المخصصة للاستحمام في السجون "!
ورد عدد من وزراء الحكومة على اقتراح عزرا بقولهم له " يوجد الكثير من الخطوات الواجب اتخاذها في مجال المياه قبل ان نصل الى حمام السجناء واغلاق صنابير المياه في السجون ".
الواقع يكشف أن إدارة السجون الإسرائيلية تحاول استهداف الأسرى بتقليص كميات المياه التي تصل إليهم ، ويبدو أن هناك زعامات حاقدة في إدارة السجون تدفع في هذا الاتجاه. وكأن الأسرى فى السجون هم سبب مشكلة المياه!
يُذكر أن إدارة السجون قامت فى السنوات الأخيرة بتركيب أنظمة مياه فى السجون لتقليص كمية المياه " كالحمامات الالكترونية التي تعمل على العين السحرية ونظام الوقت المحدد ذات الضخ الضئيل جداً والمستفز للأسرى". وقد رفض الأسرى هذه الأنظمة لعدم نجاعتها وكثرة تعطلها، ويعاني الأسرى في السجون الإسرائيلية بشكل عام وفي سجني النقب ومجدو على وجه الخصوص من نقص المياه، وفي قسم 7 في سجن مجدو أعرب الأسرى عن شكواهم من نقص المياه بشكل مستمر، وتتعذر إدارة السجن هناك بقولها " أن إسرائيل تعيش أزمة مياه خانقة منذ ثلاثة شهور". وقد تكررت هذه المشكلة في معتقل النقب حيث تنقطع المياه عن الأسرى عده مرات في الأسبوع الواحد.
ولدى كل احتجاج للأسرى تبلغهم إدارة السجن أن المياه لا تقطع عمداً وإنما لوجود تصليحات فى شبكة المياه العامة المؤدية للسجن، والإدارة لا تبلغ الأسرى مسبقاً عن انقطاع المياه مما يسبب حالة من التذمر الشديد والتبعات السيئة على الأسرى في الحمامات والغسيل والطعام والنظافة العامة والصلاة .
هذا على صعيد المياه في السجون، أما الهواء فمعه هو الآخر معاناة أخرى. فالسجان يتحكم بكمية الهواء التي تدخل إلى رئات الأسرى وإلى زنازينهم وغرفهم وخيامهم، وكذلك أوقات ومدة الخروج إلى النزهة في الباحات. وتغدو مشكله الهواء أكثر حدة بسبب الإزدحام وتزايد عدد الأسرى في السجون بسبب الإعتقالات وتزايدها.
المعاناة على هذا الصعيد واحدة على الأسرى والأسيرات. ولكن تكون المعاناة أفظع بشكل خاص على الأسيرة حين تكون حاملاً، أو حين تكون أماً ومعها طفلها الرضيع فيسبب ضيق التنفس ونقص الأكسجين لكليهما التعب والإضرار بالصحة.
أما على صعيد أهمية الوحدة والأذى الكبير الذي ينتج عن عدم التوصل إليها وعدم مراعاتها، فقد اتضح أن الإنقسام الذي تعاني منه الساحة الفلسطينية قد أضر بقضيتنا بشكل عام على الصعد الفلسطينية والعربية والعالمية، إذ فقدت القضية الفلسطينية الكثير من جاذبيتها بعد أن "بهدلنا أنفسنا بأنفسنا" وأصاب التشظي والتفتت صفوفنا وإرادتنا. وإذا كان هذا الأمر صحيح بشكل عام فهو صحيح بشكل موجع ومرير داخل السجون الإسرائيلية وانعكاسه على الأسرى وعلى قوتهم ومعنوياتهم.
هناك سعي دائم من قبل مصلحة السجون الإسرائيلية لمواجهة الحركة الأسيرة الفلسطينية، بهدف النيل من معنويات الأسرى، والضغط عليهم والعمل على كسر إرادتهم وتفتيت وحدتهم، وبما يضمن تحويل السجون الإسرائيلية الى مقابر للأسرى، لا أن تكون قلاعاً ومدارس للنضال والعلم والثقافة. وهنا تعمل إدارات السجون الإسرائيلية على منع التواصل والتنسيق بين الأسرى الفلسطينيين، ليس على مستوى السجون عامة، بل وفي إطار السجن الواحد، حتى تتمكن إدارات السجون الإسرائيلية من قمع وتفتيت أي جهد نضالي داخل السجون يستهدف المواجهة والتصدي للإدارات السجون في هجماتها المتكررة على الحركة الأسيرة، بقصد قمعها أو سحب منجزاتها ومكتسباتها التي حققتها وعمدتها بالمعاناة والإضرابات والشهداء.
وفي تنفيذها لخططها، تستغل إدارة السجون الإسرائيلية حالة الضعف العامة، التي يعاني منها الوضع الفلسطيني، وما يترتب على ذلك من انعكاسات وتداعيات سلبية على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية. ففي سجن عسقلان على سبيل المثال تم تفريغ قسم ووضع فيه معتقلين مدنيين بدل الأسرى الأمنيين، وتم تسليم المطبخ والمغسلة لمعتقلين مدنيين بدل الأسرى الأمنيين. وقامت إدارة السجن بتقسيم ساحة النزهة"الفورة" لمنع التواصل والزيارات بين الأقسام، وأصبح كل قسم سجناً قائماً بذاته.
شنت السلطات الإسرائيلية هجوماً غير مسبوق على الحركة الأسيرة الفلسطينية بحجة أن الحركة الأسيرة الفلسطينية هي "وكر للإرهاب"، وأنه من خلال السجون تدار خلايا وتنفذ عمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية في الخارج. وقامت وحدات قمع السجون"النحشون" بشن حملة شرسة على أسرى عسقلان، باعتباره إحدى السجون المركزية التي تتركز وتتجمع فيها قيادات الحركة الأسيرة، وهذا الهجوم كان تمهيداً لعملية قمع شاملة بحق الأسرى في مختلف السجون.
ورافق خطوات العدو القمعية داخل السجون خطوات إضافية بعد حالة الانقسام الفلسطيني، لأجل تشديد العزل، حيث وضعت أسرى حماس والجهاد الإسلامي في أقسام خاصة، وأسرى منظمة التحرير في أقسام أخرى، وهذا ليس تكريساً للعزل السكني فقط، بل وللعزل والفصل السياسي القسري بين الأسرى في نفس المعتقل، وبما يخدم سياسات إدارات السجون في إضعاف وتفتيت وحدة وتلاحم الحركة الأسيرة، وشل قدرتها على خوض معارك نضالية موحدة، مثل الإضراب المفتوح عن الطعام وغيره من خطوات نضالية احتجاجية.
الانقسام الحاصل على الساحة الفلسطينية، لم يقتصر على تقسيم الوحدة الجغرافية لشطري الوطن وتمزيق وحدة النسيج الإجتماعي فحسب، بل امتد وطال وحدة الحركة الأسيرة التي لطالما تغنينا وافتخرنا بها وبمتانتها وصلابتها .
الإنقسام مزق وحدة الأسرى وعزز المعايير الإسرائيلية المجحفة في التعامل مع الأسرى وفقاً للسكن والإنتماء، وأضعف حضور قضيتهم على كافة المستويات المحلية والعربية والدولية ، وساعد إدارة السجون في الإنفراد بالأسرى واضعاف وحدتهم وتصعيد هجمتها ضدهم والمساس بانجازاتهم التي تحققت بفعل النضال والمعاناة ودماء عشرات الشهداء من الأسرى ، بعيداً عن وسائل الإعلام، مما فاقم من معاناتهم ومعاناة ذويهم.
هذا الإنقسام المؤسف والمؤلم أفقد الأسرى وحدة الموقف وقرار المواجهة، وأحدث انقساماً وضعفاً كبيراً في المساندة الجماهيرية والحزبية لهم ولنضالاتهم ضد ادارة السجون، إذ بدون وحدة قوية ومتينة للحركة الأسيرة داخل سجون ومعتقلات الإحتلال يساندها فعل جماهيري ومؤسساتي كبير، لا يمكن للحركة الأسيرة أن تحقق انتصارات وإنجازات في وجه الجلاد الصهيوني.
والتجربة الإعتقالية اثبتت بأن التجارب النضالية التي خاضتها الحركة الأسيرة واعتمدت على وحدة الموقف، واستندت لمساندة جماهيرية كبيرة هي التي حققت انتصارات وإنجازات كبيرة.
ورغم معاناة الأسرى وألمهم مما يعتمل في الوضع الفلسطيني من تمزق وانقسام إلا أن الحركة الوطنية الأسيرة تدرك أهمية الوحدة وخطورة التمزق، وقد عبَّر الأسرى في السجون الإسرائيلية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقف عن دعوتهم للوحدة ومناشدتهم لكل القوى الوطنية الفلسطينية لرص الصفوف وتوحيد الجهود وإنهام حالة الإنقسام التي أضرت شعبنا بكافة مكوناته.
الآن، وشعبنا في غزة يتعرض لعدوان صهيوني إجرامي بشع، فإن المنطق الوطني يتطلب منا جميعاً أن نجتمع على ما يوحدنا، مصلحة شعبنا وألمنا المشترك، ومستقبل أولادنا. جميعنا بحاجة إلى التآخي والتكاتف، وخاصة الأسرى والأسيرات.
فيا إخوتنا وأخواتنا الأسرى والأسيرات، ليكن لكل منكم انتماؤه الأيديولوجي والسياسي، فهذه ليست مشكلة أو مصيبة، المهم ألا يقصي ويشطب وينكر أحدنا الآخر ويعتبر نفسه الكل بالكل، لينظر كل منا إلى نفسه وإلى فصيله وتنظيمه بأنه رافد يصب في نهر فلسطين، رافد في نهر وليس النهر كله. كلنا روافد والنهر هو فلسطين، والأرض، والقضية، والشعب وأهدافه العليا. فلسطين أكبر من تنظيماتنا، وحتى أكبر من زعمائنا.
لا تجعلوا سجنك سجنين، سجن من أعدائكم، وسجن من أيديكم، ففلسطين تجمعكم، وعدوكم يقهركم ويتشفى بتمزقكم، وخاصة وقت المجازر والمحن. لا تُخيبوا أمل شعبكم وأهاليكم فيكم، واقهروا عدوكم بوحدتكم ورص صفوفكم!
بقلم: د.عدنان جابر