في المستشفى بعمان، وكان في اللحظات الأخيرة مما تبقى له من حياة، قلبه يوشك على التقاعد من رحلة العمر، عقله في تمام صفائه، وضميره في الإستنفار الأخير، سأل الحكيم عن ثلاثة أمور: كيف حال أهلنا في غزة، كيف هي الوحدة الوطنية، وكيف حال الثوابت !!!
لم يسأل عن زوجته وبنتيه وأحفاده، لم ينشغل بوصية شخصية عائلية، أو بأموال في البنوك، فرأسماله عمر كامل في خدمة فلسطين، ورصيده نظافة الكف، احترام الناس له، ومكانة رفيعة في ذاكرة الشعب والتاريخ.
يقول غسان كنفاني على لسان "أم سعد": "خيمة عن خيمة.. تفرق"، وحياة جورج حبش تقول: طبيب عن طبيب.. يفرق !
لم يشأ جورج حبش أن يتكرس طبيباً للأطفال، أو أن يكون حكيماً (طبيبا) له عيادة، وبيت، وحياة عائلية هانئة وهادئة. اختار أن يكون حكيم الثورة، أن يعالج جذر مصائبنا: الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وسار في درب الآلام: حياة النضال والتشرد والمعاناة.
جورج حبش.. إسم له قوة جاذبة لدى فلسطين والمناضلين العرب وأحرار العالم، إسمٌ يَرنُّ في الوطن والشتات، في المخيمات والقرى والمدن، في الجبال والأحراش. كم رافق اسمه الفدائيين في القواعد والمعسكرات، على المحاور والمتاريس، وفي الدوريات، كم لازم إلهامه المناضلين في الأقبية والزنازين: أصمد يا رفيق، لا تخذل شعبك ورفاقك، وانتصر على جلادك!
مع رحيل الحكيم جورج حبش، نسأل: هل رحل آخر الكبار لدى شعبنا، آخر الشخصيات الفلسطينية التاريخية، هل ذهب الرمز الفلسطيني الأخير؟!
الشعب الفلسطيني، شعب الثورات والانتفاضات والبطولات والتضحيات، هل سيكُفُّ عن ولادة الرموز؟! ليست المشكلة في الشعب، المسألة أكثر تعقيداً.
الرمز لا يولد رمزاً. هو لا يكون، بل يتكون. وهل ليس ابنُ لحظة، بل ابنُ سياق. وشهادة جدارته ليست مرآة الذات، بل وجدان الشعب وصدى التاريخ.
يمكن أن يكون لدينا كثير من الأبطال، لكن ليس من السهل أن يوجد لدينا قادة ورموز. ليس الرمز بما يقوله هو عن ذاته، بل بما يقول الشعب عنه، ويسجل التاريخ له. ولا يوجد الرمز اعتباطياً، بالصدفة، أو بقرار يصدر في مساء حالك لنصبح مع رمز في صباح مشرق. القائد العظيم والشخصية التاريخية هو رمز لا يكون بحجم الأنا، والعشيرة، والحزب، بل بحجم الشعب والوطن والقضية.
الشخصيات الكاريزمية نادرة في زماننا، وهي تغيب وتختفي على الصعيد العالمي. فكيف نواجه هذا الامتحان ـ التحدي: كيف، وبماذا "يُعوِّض" حزب غياب رمزه أو رموزه؟!
بالمعنى السياسي والوطني، ربما يصح القول أن كل رمز هو قائد، ولكن ليس كل قائد رمز. وهنا يكون "تعويضنا" عن غياب رمزنا أو رموزنا عن طريق وجود قادة أكفاء، يمتلكون اللياقة العقلية والثقافية والسياسية والتنظيمية والأخلاقية، يكتسبون ثقة الإطار المحيط بهم، وثقة الشعب. ومثلما ترحل رموز، يمكن أن تنشأ رموز، أما كيف ومن تكون هذه الرموز، فذلك متروك للواقع والشعب والتاريخ.
في ظل تراجع دور الفرد في التاريخ، وندرة ورحيل الشخصيات التاريخية والزعماء "الكاريزميين"، ليس لنا إلا أن نرفع من دور المؤسسة والعمل المؤسساتي، أن نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، نرفع سوية الجزء ونحرص على تكامل الأجزاء، بنيوياً وعلى صعيد الممارسة، فاللوحة بعناصرها، وعلينا أن نرى الشجرة والغابة.
جورج حبش كان يتمتع بثقافة الإصغاء، لم يكن من الأشخاص الذين يريدون مستمعين فقط، أو مصفقين فقط. تجد من اختلفوا معه، ولا تجد من اختلفوا عليه. وكان مبادراً وصادقاً حين أصغى إلى مبدأ التجديد وإلى قانون البيولوجيا، فلم يشأ أن يكون "أميناً عاماً" إلى الأبد، أو.. إلى القبر!
نعرف يا حكيم، كم كان حزنك عظيم أمام كل انقسام، سواء كان في التنظيم، أو في المنظمة، أو في صفوف الشعب. فالقلاع لا تقتحم إلا من الداخل.
وتعرف، ونعرف يا حكيم، كم دفع شعبنا ثمن انحراف البوصلة، وأن مبدأ "إعرف نفسك" لا يقل قيمة عن مبدأ "إعرف عدوك"، بل يفوقه قيمة.. ومرارة، وأن "المصيبة" التي تصنعها لشعبنا أيدينا أو أيدي الأشقاء ليست فقط فضيحة لنا و"بهدلة" لقضيتنا، بل هي عقبة في وجه علاج "النكبة" التي سببها الأعداء.
عرفنا من الشاعر الجميل أحمد دحبور أن الشاعر أبو سلمى، زيتونة فلسطين، قال عن أبو عمار والحكيم: "الأول: زعيم بدون منافس، والثاني: الزعيم الحارس" !
وداعاً يا حكيم الثورة، عشتَ محترماً.. ورحلتَ محترماً !
د.عدنان جابر