سأحكي عن التراجيكوميديا، أو الضحك الأسود، لدى عبد الرحمن سميري من خان يونس، الذي أعرفه أسيراً "سابقاً" عندما كنت معه في الأسر في سجن بئر السبع، ولا أعرف إن كان الآن أسيرا "راهناً"، إن كان الآن فوق التراب أو تحت التراب، فمن يضمن من عندما يكون كل فلسطيني مرشح شهيد أو أسير في ظل احتلال، هو من أقبح وأسفل ما عرف التاريخ من احتلالات، والأعمار بيد الله.
عبد الرحمن السميري لم يكن " فاقداً للبصر " بل " نظره خفيف ". في سجن بئر السبع عام 1973 عندما كان أحدهم يلعب الشطرنج مع عبد الرحمن كان يقول لعبد الرحمن من قبيل الدعابة: "يا عبد الرحمن، كيف بدك تغلبني وانت أعمى ما بتشوف". وعندما يفوز عبد الرحمن كان "يطنطن" بفوزه في الغرفة، حتى يسمع بقية الأسرى وهو يقول: " بضل يقول لي ما بتشوف.. هاي أنا غلبته".
في السجون، كان بعض الأسرى يقومون بتطريز أشياء معينة على مناديل ويهدونها أثناء الزيارة للأم، للزوجة،للأولاد، للخطيبة...
أراد عبد الرحمن أن يجرب "موهبته!" مع التطريز. في أحد الأيام، بدأ منذ الصباح الباكر في عملية التطريز. بعد جهد، تمكن من وضع الخيط في ثقب الإبرة، وضع المنديل على ركبة بنطاله، وشرع في ما قرر في ذهنه أن يكون هدية للأهل. بعد أكثر من 5 ساعات من العمل المتواصل أنهى عبد الرحمن المهمة، وأراد أن يرفع المنديل عن ركبته ليتأمل ما أنجزه، لكن المنديل أبى بعناد أن يغادر مكانه، لأن "قُطَبْ" التطريز كانت ملتصقة مع ركبة البنطال.
لاحظ " أبو العبد " عوني فروانة, وهو والد الأستاذ عبد الناصر عوني فروانة مدير دائرة الإحصاء في وزارة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين حالياً ، لاحظ ما جرى لعبد الرحمن وجاء إليَّ قائلا : " أنظر، أنظر إلى عبد الرحمن " نظرت إليه وكان يمسك رأسه بين يديه وينظر إلى المنديل الملتصق، بحسرة وحزن، لقد ذهب جهده وتطريزه سدى، تجمع عدة أسرى عند عبد الرحمن، وعلق أبو العبد فروانة وهو يضحك: " قلنا لك يا عبد الرحمن إنك ما بتشوف" ، أحد الذين كان عبد الرحمن يهزمهم في الشطرنج عدة مرات وكان "يتفلسف" ويقول في كل مرة بأن فوز عبد الرحمن هو "صدفة" وليس "ضرورة"، علَّق قائلاً: معلش يا عبد الرحمن أرسل البنطال بالكامل، آخر قال: أرسل "فردة" البنطال، ووجد أحدهم حلاً: " بسيطة، قص الركبة واعطيها لأهلك مع التطريز"، والكل يضحك، وعبد الرحمن السميري ينظر إليهم وإلى التطريز، ثم ما لبث أن انضم إليهم، وانفجر ضاحكاً .
د.عدنان جابر*