أتذكر جيدا عندما بدأنا دراسة مادة الفلسفة و أنا في الصف الثاني من التعليم الثانوي بثانوية المنصور الذهبي بأقا. كان يدرسها لنا أستاذ اسمه "بدر" كان أستاذا مجدا في عمله و مخلصا لمهنته ومنضبطا في آداءه.وأنا شخصيا قد أعجبت بأسلوبه في الشرح و منهجيته في التدريس. و قد كان هذا عاملا أساسيا في تحبيب هذا العلم إلينا.كان يستعمل لغة عربية فصيحة ولكنها سهلة الفهم مدعما بحركات جميع أعضاء جسمه مما يسهل الفهم,ويعتمد كذلك على صوته المرتفع الشبيه بالصراخ ,و لكن ذو نبرة جميلة, مما يحرم النوم حتى على أكسل الكسالى و أكثرهم نوما وأكبرهم شخيرا.
دخلنا ذات يوم إلى الحصة و كلنا آذان صاغية.فعندما يبدأ الدرس فإن الكل يتصنت ولا تسمع أي همس كأننا في خطبة الجمعة. لأن الأستاذ كان يضبط القسم أيما ضبط ,حتى أباطرة المشاغبين الذين يكونون أسودا على الأساتذة الآخرين فإنهم يصيرون عنده كالنعامات التي تغشى رأسها في التراب.
بدأ الأستاذ كعادته الدرس بالتذكير بمحاور الحصة الماضية ثم بعد ذلك انتقل إلى تقديم الكوجيطو الديكارتي "أنا أشك إذن أنا أفكر, أنا أفكر إذن أنا موجود". كان قد أعجبني كثيرا هذا المنهج الديكارتي المبني على الشك من أجل الوصول إلى اليقين و الحقيقة. ولكنه أثار عندي بعض التساؤلات ولعل أبرزها:هل من المعقول أن يؤدي الشك اللاحقيقي إلى الوصول إلى الحقيقة؟بتعبير آخر هل من المؤكد أن يقودنا شيئ مبني على المجهول إلى الوصول إلى المعلوم؟
و لكن كان لدي سؤال آخر ترددت كثيرا قبل طرحه و لكن تشجعت فرفعت أصبعي و استسلمت للساني فقلت: "أي أستاذ, أنا أفكر إذن أنا موجود و لكن الحيوان لا يفكر إذن فهو غير موجود, وهذا غير ممكن لأنه لا يمكن لأي شخص أن ينكر وجود حيوان يراه بأم عينيه" أنهيت السؤال فسكت الأستاذ برهة. يبدو أنه ليس مستعدا للإجابة لأنه لم يتوقع منا طرح مثل هذه الأسئلة. فالحقيقة هي أن الأستاذ لم يقدم إجابة كافية بل حاول تجاوزي, و أنا أيضا لم أكن واثقا من نفسي من أجل الخوض في النقاش لأنه لم تكن لدي معلومات كافية لذلك باعتبارنا مبتدئين في هذا العلم الجديد القديم.
وبعد ذلك حاولت أن أقوم ببحث شخصي بسيط فلم أفلح في إيجاد الجواب,إلا أنه بعد عام تقريبا استنتجت بأن الوجود الذي يتكلم عنه ديكارت ليس الوجود المادي و لكن الوجود المعنوي و ذلك باعتبار الحقيقة والوجود الحقيقي يدخلان في إطار الماهية و الجوهر. أما الوجود المادي فهو وجود لا حقيقي (اللاوجود) لأنه زائل لا محالة ,و هذا ما يؤكده أفلاطون في نظرية المثل. وما يؤكد استنتاجي هذا هو ديكارت نفسه الذي أكد بأنه لا يمكن لما في الأعيان (ما تراه العين,العَرَض أو الوجود المادي)أن يتطابق لما في الأذهان (الأفكار و الماهيات أو الوجود المعنوي).
وبناءا على هذا الإستنتاج فأنا أفكر إذن أنا موجود أيْ وجودا ماديا و معنويا. و لكن يمكن أن نجد إنسانا موجودا وجودا ماديا فقط, أما معنويا فهو غير موجود بالمعيار الديكارتي لأنه لا يفكر. و هذا من السهل أن نؤكده عن طريق البرهان بالخلف للكوجيطو الديكارتي أي "أنا لا أشك إذن أنا لا أفكر,أنا لا أفكر إذن أنا غير موجود".و لكن هذا أدى بنا إلى طرح إشكالية جديدة:هل من الممكن أن نجد إنسانا لا يفكر أصلا؟ هل العقل هو المصدر الوحيد للتفكير؟ كيف يفكر الإنسان؟
وفي الأخير وكإجابة على" السؤال المنطلق" فإنه صحيح بأن الحيوان لا يفكر (و ربما هذا ليس فيه أي اختلاف و إن كان يطرح إشكالية ما إذا كانت بعض الحيوانات ذكية؟ و العلاقة بين الذكاء و العقل و التفكير؟) و بالتالي فهو غير موجود وجودا معنويا فقط أما الوجود المادي فهو موجود بالفعل.